لا بد أن تعامل الذرة بحذر فهي لا تتسامح مع اي تصرف متهور، حيث أن القوى داخل النواة لا يستهان بها وهي قادرة على الرد على اي سلوك غير مسؤول. لا يمكنك في أي مرحلة من المراحل ان تضعف يقظتك وتركن الى الصدفة – يجب أن تبقي إصبعك على الزناد باستمرار.
يُطلق على المراحل الأولى من فترة تطور الطاقة النووية مصطلح “ترويض الذرة” ، وفي هذه الحالة تعتبر هذه المقارنة عادلة تماما لوحش مفترس يمكنه في أي لحظة أن ينقض على مدربه عديم الخبرة. اسئلة مهمة يتم توجيها في الغالب الى صناع قطاع الطاقة النووية، هل انتم اليوم “مدربين ماهرين” ؟ هل أخذتم في الحسبان الأخطاء التي ارتكبها السلف في طريقه الصعب؟ وما هي الضمانات المستقبلية التي تضمن لنا نحن المعاصرون ان لا نقع في نفس الحفرة الذرية مرة أخرى ولن نضطر إلى التعامل مع كوارث مثل جزيرة الثلاثة أميال، تشيرنوبيل ، وفوكوشيما ؟
من أجل تأكيد حقها في البقاء والتطور يجب على الصناعة النووية العالمية أن تقلل من احتمال وقوع حوادث إشعاعية في وحدات الطاقة النووية الحالية والتي هي قيد الإنشاء إلى أدنى مستوى مقبول.
وكبداية، من المنطقي مشاهدة الأشياء من منظور عين الطائر. ما هي المعلومات التي نعرفها عن الإشعاع؟ الإشعاع خطير – هذا صحيح ؛ لكن الإشعاع الشمسي ايضا يشكل خطورة في حالة التعرض لجرعات عالية منه. ماذا ايضا؟ يمكن أن يؤدي حادث اشعاعي إلى عواقب وخيمة – وهذا أيضًا صحيح. ومع ذلك ، فمن العدل القول أن الإشعاع الذي صنعه الانسان ليس العامل الخطير الوحيد الذي كان للبشرية دور في تكوينه. وبطبيعة الحال ، فإن الحوادث الإشعاعية لها خصائص وسمات معينة ، ولكنها في الوقت نفسه تمثل شريحة أوسع بكثير من الحوادث الاخرى التي هي من صنع الإنسان.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن “الحادث الذي من صنع الإنسان” هو مصطلح غامض إلى حد ما. ولكن في ابسط اشكاله يكون مرتبط بخلل في المعدات والأجهزة. وكما هو معروف فإن وحدة الطاقة النووية ، وعلى رأسها المفاعل ، تتكون من العديد من الأجهزة التي صنعها الإنـســـان.
واجهت البشرية العديد من المخاطر التي هي من صنع الإنسان قبل طويل من اكتشاف ظاهرة النشاط الاشعاعي. في ذلك الوقت كان الانسان قد أنشا تقنيات خاصة لتسهيل الحياة والعمل كالمعدات المستخدمة في البناء والزراعة والمصانع وهلما جرا. فالحوادث التي صنعها الانسان بيده ليست ظاهرة جديدة وكمثال على ذلك، الانهيارات التي حدثت في المناجم بسبب استخدام عوارض دعامية رديئة وغير صالحة سببه في المقام الاول الانتهاك الصارخ لمتطلبات السلامة.
ما هي القاعدة التي تستند عليها الحوادث؟ هناك العديد من الأسباب المحتملة مثل: اخطاء في التصميم ، وانتهاك قواعد التشغيل ، وإهمال الموظفين ، واستخدام المعدات البالية ، والكوارث الطبيعية ، وعيوب التصنيع و القائمة تطول وتطول.
لا يمكن تجاهل مأساة تشيرنوبيل، فالانفجار الذي حدث في أبريل من عام 1986 وتحديدا في الوحدة الرابعة من محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية ، بالنسبة للكثيرين أعتبر كتساقط الثلوج على الرؤوس (المقصود انه حدث ليس بتلك الخطورة)، لكن يجب الاعتراف بأن الحدث الذي وقع لم يكن الحادث الخطير الأول الذي سببته الطاقة النووية الخارجة عن السيطرة حيث تبين أن تشيرنوبيل كان نقطة سوداء في بحر سلسلة الحوادث الأخرى الأقل أهمية.
وقع أول حادث خطير لمفاعل طاقة، والذي جذب انتباه المجتمع العالمي بأسره ، في عام 1979 في محطة الطاقة النووية الأمريكية ثري مايل آيلاند. كان السبب الأولي للحادث هو الأعطال الفنية في المرشحات المصممة لتنظيف مكثف التوربينات. أدت الأخطاء اللاحقة التي ارتكبها موظفو المحطة، إلى جانب تعطل نظام الطوارئ ، إلى تعطيل نظام التبريد ، مما أدى إلى حدوث انصهار جزئي في قلب المفاعل. اخترقت بعض النظائر المشعة أنظمة الحماية لوحدة الطاقة وخرجت الى البيئة المحيطة. لحسن الحظ ، كانت كمية الانبعاثات قليلة ، و الجرعات التي تلقاها السكان نتيجة لهذا الحادث ضئيلة للغاية.
بالنسبة للدول النووية الاخرى هل تم التوصل إلى أي استنتاجات فيما يتعلق بهذا الحادث؟ بالتأكيد. أولاً ، ظهرت اهمية و مقدار الاعتماد على الأشخاص: لولا الافعال الخاطئة للأفراد ، لكان من الممكن تجنب حالة الانصهار التي حدثت في قلب المفاعل. ثانيًا ، اصبحت المراقبة المستمرة لسلامة أنظمة الامان امرا لا مفر منه. ثالثًا ، أدرك العلماء النوويون الحاجة إلى زيادة تدعيم وتعزيز أنظمة الأمان: حيث انه و في حالة فشل أي من عناصرها ، يجب على البقية التعامل مع العواقب ومنع حدوث اي حادث مهما كان نوعه ودرجة خطورته، حيث ان اي حادث بسيط سيولد سلسلة من الحوادث الاشد خطورة.
في خليج تشازما من العام 1985 ارتكب خطأ جسيم اثناء اعادة شحن الوقود النووي في الغواصة السوفيتية الذرية К-431 مما ادى الى انفجار قوي اعتبر الاخطر على الاطلاق. كانت كمية الطاقة المنبعثة كبيرة جدًا لدرجة أن معدات النقل احترقت وتبخرت. بالإضافة الى ذلك، تمزقت الرافعة العائمة وسقطت في الخليج ، وغطاء المفاعل ، الذي يزن 12 طنًا ، طار رأسياً على ارتفاع عدة مئات من الأمتار ثم سقط على الغواصة مما ادى الى تدميرها. توفي عشرة بحارة على الفور ممن كانوا يقومون بإعادة تحميل الوقود – واختفت جثثهم ببساطة بسبب قوة الانفجار. إجمالاً ، نتيجة للحادث ، أصيب 290 شخصًا – معظمهم من العسكريين. أدى الانبعاث الإشعاعي إلى تلوث كبير في قاع خليج تشازما، كما تأثرت القرية الواقعة بالقرب من منطقة الحادث.
في الثمانينات من القرن الماضي ، كانت الصناعة النووية قد أثبتت نفسها كواحدة من أنجح مجالات الصناعة السوفيتية . وكان من السهل التعبير عن المزاج العام الذي ساد الاوساط آنذاك بعبارة “لا يمكن أن يحدث شيء خطير”. لكن هذه النشوة وإن كانت مبررة لكنها بقيت مؤقتة. هل علم مطورو مفاعل RBMK-1000 بنقاط ضعفه؟ الجواب للأسف نعم لقد كانوا على علم بذلك. في معهد لينين لهندسة الطاقة والبحث العلمي NIKIET وفي معهد كورتشاتوف للطاقة النووية تم عرض تقارير مهمة عن أوجه القصور التي تم تحديدها أثناء تشغيل المفاعل. ومع ذلك ، لم تكن الإجراءات “الورقية” البحتة كافية فقد كانت هناك حاجة ماسة إلى تطوير أنظمة أمان جديدة أكثر تقدما. كانت المحور الحيوي المهم هو إنشاء آليات لمنع الأفعال الخاطئة للأفراد ، وبعبارة أخرى اعتقد انها مناسبة ، “نظام حماية ضد الاحمق”. لسوء الحظ ، لم يتم تطبيق اي من ذلك، قبل حادث عام 1986 ، لم يتم تنفيذ أي إجراء واحد من البروتوكولات المقترحة لتحسين أداء مفاعل RBMK في أي من محطات الطاقة النووية. يبدو ان الادارة كانت تعتبر مجرد جلوس المهنيين الموهوبين المؤهلين تأهيلا عاليا خلف لوحة التحكم في وحدة الطاقة سيكون كافيا ولن يسمح بحدوث كارثة، لكن لأسف مع توالي السنين تغيرت سياسة الموظفين للأسوأ.
على الرغم من إنشاء أقسام وحتى معاهد كاملة من اجل تدريب المهندسين على الصناعة النووية ، لكن بنفس الوقت بدأت الادارة في استقطاب موظفين “من الخارج” ، اي من الصناعات ذات الصلة ، للعمل في محطات الطاقة النووية. نتيجة لذلك ، بدأ المتخصصون في الهندسة الحرارية والطاقة الكهرومائية في الوصول إلى محطات الطاقة النووية – وهم أشخاص ليسوا على دراية بقوانين الفيزياء النووية. كانوا ينظرون إلى المفاعل النووي على أنه “غلاية” لكن بوقود مختلف. ومع ذلك ، فإن استخدام مصطلح الغلاية مناسب فقط لشرح مبدأ عمل المفاعل لشخص بسيط ليس من ذوي الاختصاص. فعندما يتعامل الشخص المشغل خلف لوحة التحكم مع المفاعل على انه غلاية ، فهذا بالفعل مؤشر خطير للغاية.
لم تكن ثقافة الأمان في المنشآت النووية السوفيتية في الثمانينيات من القرن الماضي في أفضل حالاتها؛ وهذا أقل ما يمكن ان يقال. لكن الحادث الذي وقع في خليج تشازما قبل تسعة أشهر فقط من كارثة تشيرنوبيل كان بمثابة جرس الانذار المبكر لصانعي القرار بضرورة التفكير بجدية في مدى أهمية العامل البشري، ومدى أهمية مؤهلات ومستوى المتخصصين الذين يقومون بمختلف العمليات في المفاعل والمعدات ذات صلة.
حجاب السرية الذي امتد الى الطاقة النووية كان عيبا كبيرا للغاية حيث كانت المعلومات المتعلقة بحوادث الاشعاع سرية ولا يسمح لاحد بالاطلاع عليها، فعلى سبيل المثال: العديد من العلماء النوويين علموا بحادثة انصهار جزء من قلب المفاعل في محطة لينينغراد النووية عام 1975 بعد حادثة مفاعل تشرنوبل. انعكس ذلك على ارض الواقع، وتحديدا على المتخصصين في المحطات النووية حيث انهم لم يكونوا خائفين من ارتكاب الاخطاء، وذلك لسبب بسيط فقط هو أنهم لم يكن لديهم ادنى فكرة عما يمكن أن تؤدي إليه عواقب افعالهم الخاطئة.
كما هو معروف، وقعت كارثة مفاعل تشرنوبل أثناء اجراء بعض الاختبارات، حيث كانت المهمة التي وضعها موظفو المحطة لأنفسهم هي معرفة المدة التي يمكن أن يدور فيها العمود الخاص بمولد التوربينات بواسطة القصور الذاتي بعد إيقاف تشغيل إمداد البخار. “زمن التشغيل في وقت النفاد”، كما يسميه الخبراء، هو عامل مهم من وجهة نظر ضمان السلامة. وهكذا وفي نهاية الامر، نشأ تناقض عجيب حيث وقع أسوأ حادث في تاريخ الطاقة النووية نتيجة لتدابير كان الهدف منها تحسين السلامة.
إن الحوادث الكبرى في وحدات الطاقة النووية، ناهيك عن سلسلة من الحوادث الصغيرة، أوضحت أن المزاح المتعلق بالطاقة النووية سيئ للغاية، ومن أجل تجنب أحداث مماثلة في المستقبل ، يحتاج “الوحش البري” إلى “لجام” فعال وموثوق.
ما هي تدابير السلامة التي يتم اتخاذها في الوقت الراهن اثناء تشغيل محطات الطاقة النووية ؟ هناك امران رئيسيان يجب العمل عليهما. الأول: وهو تقني بحت و ينطوي على إدخال أنظمة حماية موثوقة. والاتجاه الثاني مرتبط بالإنسان ، ويتمثل في الحفاظ على مستوى عالٍ من ثقافة الامان لدى الأفراد.
ماذا تعني “ثقافة الامان”؟ بشكل عام، هذا مفهوم ليس بجديد، حيث تم التعبير عنه لأول مرة في التقرير المخصص لتحليل حادث تشيرنوبيل عام 1986. ثم في وقت لاحق ، تم تضمين هذا المصطلح في الوثائق التنظيمية الرسمية. ثقافة الامان توجه مباشرة الى الانسان، وتتضمن مستوى عالي من تدريب المتخصصين العاملين في محطات الطاقة النووية. وعلى ما يبدو ان الامور بدأت تضح الان الى حد ما: فقد أظهر حادث تشيرنوبيل، مدى خطورة السماح لشخص ليس لديه معرفة نووية متخصصة بالعمل في منشأة خطرة مليئة بالإشعاع. هذا ينطبق بشكل خاص على المشغلين في غرفة التحكم الذين يقع على عاتقهم التحكم بشكل مباشر في وحدة الطاقة النووية. يجب أن يكون هؤلاء الأشخاص محترفين للغاية، وعلى دراية بجميع التفاصيل والحيثيات التي تحدث في “غلاية” اليورانيوم.
على الرغم من أهميتها، لكن المعرفة المهنية الجيدة ليست هي الجزء الوحيد من ثقافة الامان، حيث يلعب السلوك النفسي للمتخصص دورًا لا يقل أهمية، هذا السلوك يبدأ من الجامعات والكليات التقنية وفي حقيقة الامر يستمر الى ان يصل الى المحطة النووية. فمن المهم التأكد من أن تدابير الامان اصبحت هدفا رئيسيا ورغبة ذاتية نابعة من داخل كيان المهندس النووي. وهذه مهمة ليست بتلك البساطة كما قد تبدو للوهلة الأولى، فمن الضروري أن يكون الشخص المختص، كما يقال، “مشبعًا”، أي انه من الضروري أن يشعر ، على المستوى الداخلي ، بالمسؤولية عن نتيجة العمل الذي قد يؤثر على سلامة وامان الوحدة النووية. إذا أدرك الموظف العواقب المحتملة لخطأ كان قد ارتكبه او قد يرتكبه ، فإنه يصبح أفضل مراقب وحاكم لذاته – وهذا بدوره يمكن أن يقلل بشكل كبير من احتمالية حدوث أخطاء بسبب الإهمال أو اللامبالاة.
دون مبالغة يمكن القول ان ثقافة الامان بالنسبة للصناعة النووية العالمية ككل هي مسألة بقاء، ومن اجل الوصول الى ثقافة امان عالية ، لا يكفي تعليم الموظف فقط، بل من الضروري تشكيل منهجية تمنع الأخصائي ببساطة من الاقدام على اي خطوة محفوفة بالمخاطر ، حتى لو كانت احتمالية المخاطر الغير المرغوب بها الناجمة عن ذلك ضئيلة جدا. يتم تحقيق ذلك الهدف من خلال خلق جو من الانفتاح ويعزز التبادل المكثف للخبرات. بالإضافة الى ذلك، هناك نقطة اساسية أيضًا الا وهي “استخلاص المعلومات” من خلال تحليل الأخطاء السابقة التي ارتكبت في ظل ظروف معينة والتي بدورها ادت الى وقوع الحادث. يسمح هذا باستبعاد راحة البال والضمير التي يمكن ان يقنع بها أحد المتخصصين نفسه تجاه قراراته الخاطئة قائلا “حسنًا ، لقد كنت مخطئًا ، لا داعي لتضخيم الامر! لم يحدث شيء خطير … “.
كتابة وتدقيق:
د. ايمن ابو غزال – هيئة الطاقة الذرية الاردنية.
م. سارة الخضور – جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية.